‏إظهار الرسائل ذات التسميات مفاهيم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مفاهيم. إظهار كافة الرسائل

مفاهيم: الوجود


الوجود هو تحقق الشيء في الذهن أو في الخارج، والوجود كمصطلح فلسفي مقابل للعدم، وهو الهوية قديمًا والكينونة والكائن حديثًا.

والوجود هو أكثر الصفات كلية وعمومية، وهو أعم المقولات، وبديهي ان لا يحتاج إلى تعريف، ويقول ابن سينَا: "إن الموجود لا يشرع بغير الاسم لأنه مبدأ أول لكل شرح، فلا شرح له، بل صُورته تقوم في النفس بلا توسط" والوجود هو كون الشيء حاصلا بنفسه، والوجود هو كون الشيء حاصلا بالتجربة أما حصوله فعليا فيكون موضوع إدراك حسي أو وجداني.


فالوجود هو الحقيقة الواقعية الدائمية، وهو في اللغة مصدر "وجَد" الشيء يطلق  على الذات وعلى الكون في الأعيان، ولا يحتاج إلى تعريف لبداهته، فلا يعرّف إلا تعريفًا لفظيا.

والوجود عند الفلاسفة المدرسيين مقابل للماهية، لأن الأخيرة هي الطبيعة المعقولة للشيء، والوجود هو التحقق الفعلي للشيء...

والوجود ما هو منحاز بماهية ما خارج النفس تصورت أو لم تتصور.
ويقوم "الفارابي" بحصر معنى الوجود في ثلاثة وجوه، "الموجود" يقال "على المقولات كلها"  وهي التي تقال على مشار إليه، ويقال على كل مشار إليه كان في موضوع أو لا في موضوع.
والموجود يقال على كل قضية كان المفهوم منها ما هو بعينه خارج النفس كما منهم، أي بالإجمال على كل متصور ومتخثيل في النفس وعلى كل معقول خارج النفس والموجود هو الذي اختاره أرسطو وجعله موضوعا للفلسفة الأولى "الوجود" أو "الموجود بما هو موجود" وسماها أرسطو "الفلسفة الأولى" لأنها تتناول الوجود بأعم معانيه.


مفاهيم: الوجود


والبحث في الوجود من هذا الوجه يتناول أقسام الوجود مثل: الجوهر، العرض، الوجود بالقوة، الوجود بالفعل، الواحد والكثير، والناقص ومبادئه كمبدأ الذاتية والهوية والسببية. وجهات الوجود: "كالوجوب والإمكان والإمتناع...".

كما ظهرت في الفلسفة مقولة "الوجود الإجتماعي" وهي مقولة أساسية في الفلسفة الماركسية.

أما الفلسفة الوجودية فهي تعطي للوجود معنى خاصا، فتجعله لا يقال إلا على الموجودات الواعية وبالتحديد، الإنسان الواعي المشخص.

فالوجود عندهم ليس موضوعا للمعرفة، ولا مقولة كلية، بل حياة وعاطفة وقلق وتوتر وبهذا السياق يقول كيركيغارد وهو من أكابر أئمة الوجودية: "إنني لست جزءا من كل، وإن كل من يعدّني مجرة فقرة في كتاب الكون فقد أنكر حقيقة وجودي".

ويفرق سارتر بين الوجود-في-ذاته الذي يعني به أشياء العالم، وعندما تتدخل الذات يتحول هذا الوجود في ذاته إلى وجود من أجل الذات، فعند سارتر إذن الوجود في ذاته والوجود لذاته.

أما "الوجود الممكن" virtual فهو الوجود بالقوة حسب التعبير الفلسفي الأرسطي، ويقابله وجودان هما: "الوجود بالفعل" Infact و"الوجود الصوري" Formal.
والوجود المتصف بالإمكان هو الوجود السابق التعيين، ويحتوي على الشروط الذاتية التي تنقله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.



"أما الوجود في كل مكان" فهو مصطلح لاهوتي شاع استعماله في فلسفة القرون الوسطى وهو معالجة لمشكلة "إن الله موجود في كل مكان" وهذا المصطلح مرادف لـ "الحضور الكلي" omnipresence".

ويستخدم "المدرسيون" اصطلاح "الوجود بالذات" على الله الذي وجوده من ذاته، ويقابله الوجود بالغير. وأخيرا: وجود الماهيات هو وجود ذهني، ووجود ما له ماهية وذات خارج النفس وجود مادي.

القلق



القلق خوف غير محدد وغير عقلاني. وهو يتجسد بشعور مؤلم بالعجز تجاه خطر يفتقد إلى الوضوح والتحديد. والقلق حالة نفسية-فزيائية إذ غالبا ما تتلازم هذه الحالة مع بعض التعديلات والتغيرات العصبية على المستوى الفيزيولوجي كخفقان القلب، والإرتجاف...إلخ.


وقد ينتج القلق عن صراع نفسي، كما هو الحال حين يكبح الفرد عدوانيته، كما قد يصدر أيضا عن نشاط جنسي لم يتوصل إلى الإشباع، أو عن فقدان الحب الملازم عادة لحالات الحداد، تلك الحالات التي توقظ غالبا مشاعر ترتبط بخبرات مؤلمة مر بها الفرد. والجدير بالذكر أن القلق (في بعض الحالات المرضية) قد لا يتولد من وضعيات واقعية وحقيقية، بل يكون نتاجا لهوامات وتمثلات خيالية مرتبطة بمآزم لاواعية.

ومن وجهة نظر تكوينية، يبرز القلق للمرة الأولى – كما بين ذلك شبيتز  Spitz – حين يبلغ الطفل شهره الثامن، وذلك في غياب الام، وحين يواجه، أي الطفل،  شخصا غريبا، أما أوتو رانك  Otto Rank، فيرى أن التجربة الأولى للقلق مرتبطة بهلع الولادة حين يكون على المولود الجديد أن ينتقل من وسط مائي إلى بيئة مختلفة تماما.
القلق



وقد حاول فرويد أن يحدد القلق، وذلك بتمييزه عن الذعر Frayeur والخوف  Peur يقول فرويد:
"القلق حالة تتسم بتوقع الخطر أو بالتهيؤ له. أما الذعر فيمثل حالة يولدها خطر راهن لم يكن الفرد مهيأ له. فالذعر يتم أساسا بعنصر المفاجأة. والخوف يفترض موضوعا محددا يبدي الفرد تجاهه هذا الشعور".

ويتابع فرويد قائلا: " لا أعتقد أن القلق قادر على إحداث عصاب هلعي. فهناك في القلق عنصر يحمي من الذعر ومن العصاب الذي يولده الذعر".
وينتج القلق، في النظرية التحليلية عن الطاقة الحرة  Energie Libre الناتجة عن كبت الرغبات الجنسية.

أما في الفلسفة الوجودية، فيتضمن القلق بعدًا ميتافيزيقا. فالقلق، في هذا المذهب، هو الكاشف – للإنسان- عن لا عقلانية وضعه، وعن لا معقولية وجوده.


بعض المراجع:
Fedida, pierre, Dictionnaire de la psychanalyse, paris, Larousse, 1974.
Freud, Sigmund, Essais de psychanalyse, Traduction française de S. Jan Kelevitch, Paris, Petite Bibliothèque, Payot, 1963.
Didler, Julia, Dictionnaire de la philosophie. Paris, Larousse, 1964.


إعداد:  رالف رزق الله.


مصطلحات هايدغرية: الكينونة



الكينونة هي أعم المفاهيم إطلاقا لأنه تشمل وتطول كل الموجودات، وهي بالتالي أكثر السمات اشتراكا بين كل الكائنات والأشياء فهي نوع الأنواع وخصوصية الخصوصيات لأنها تلازم كل فرد أو حالة خاصة.

مصطلحات هايدغرية: الكينونة


فالكينونة من ثمة حيث اشتراكها وشيوعها اللانهائي هي أكثر الأشياء إفلاتا من التحدد والضبط والتعريف،  مثلما أنها لا تقال أو المالا أعرف وبالتالي فهي إذن كانت هي أصل الأصول و"مصدر" الأشياء إلا أنها أقرب ما تكون إلى اللغز أو السر فهي بمثابة شمس لامرئية أو مصدر مجهول للضوء يلقي بأشعته على الكائنات والأشياء فينيرها ويهبها حظ الوجود لكنه هو نفسه مجهول ولامرئي أو لا يكاد يُرى إلاعبر تشخصاته وتجسداته فهو "يلمع بغيابه" وهو الغائب الأكبر والحاضر الأمثل.


وهي في الغالب ما لا يمكن التفكير فيه أو ما لا يقبل أن يكون محط التفكير كما لا يمكن حسابه وكأنه بديهية البديهيات أو سراب لا يمكن الإمساك به عينيا أو الإحاطة به، وما لا يمكن حسابه لأنها أقرب إلى اللاشيء منها إلى الشيء. قد تتجلى أو تبدو هناك أي في الدازاين باعتباره الكائن الوحيد القادر على مساءلة كينونته وكينونة الإشياء.

وهي كذلك ح – د - ث أكثر  مما هي شيء وقد تمركز فكر هايدغر في فترته الثانية على ما يسميه الإيرايغنيس  EREIGNIS أي الحدث الأجلّ أو الحدث الجليل أو الحدث الأكبر الذي هو أقرب ما يكون إلى الكينونة أو هو الكينونة ذاتها.


تتجلى الكينونة عبر الظهور والأختفاء عبر تاريخ الفلسفة فتحدد عصور هذا التاريخ ابتداء من الجوهر القائم إلى الحضور الدائم إلى الفكرة/الصورة (أفلاطون) إلى الفعل (أرسطو) إلى الكوجيتو والذاتية عند ديمارت أو الفكر المطلق عند هيجل أو إرادة القدرة عند نيتشه أو إرادة الإرادة عند هايدغر – إنها عند اليونان تعني البدوّ والظهور وفي العصر الوسيط تعني الخلق وفي العصر الحديث تعني الموضوعية بمقابل الذاتية.

ومع ذلك لا يفهم من هذا الانعطاء أنها "السبب" أو "الفاعل" أو "الصانع" أو الخالق، فهي ليست من الله في شيء ولا هي أساس العالم وسنده بل هي أقرب إلى العدم والموت والتناهي منها غلى الوجود والحياة والعيش.

إعداد: محمد سبيلا 

مصطلحات هايدغرية: الزمن


يميز هايدغر بين تصورين للزمن: التصور العادي الجاري والتصور "الأصلي" أو الأصيل.
الزمن العادي هوالزمن من حيث تلاحق مستمر لسلسة من الآنات التي تتكرر إلى ما لانهاية.

الأساس الفلسفي لهذا التصور هو فيزياء أرسطو حيث يتور هذا الأخير أن الزمن هو "مقياس" الحركة التي هي تلاحق لحظات حاضرة، وهو التصور الذي ساد تاريخ الميتافيزيقا.
مصطلحات هايدغرية: الزمن

أما الزمن "الأصيل" فهو يتعارض مع التصور السابق من حيث أنه يتعلق بتناهي الدازاين، ومن ثمة فهو ليس قائما على تلاحق مستمر ولا نهائي لآنات الحاضر، بل هو تعبير عن لهاث مستمر نحو الآتي أو المستقبل أي نحو انشداد الدازاين إلى مستقبل الذي يتمثل في منذوريته للموت أو مائتيته.

يعتبر هايدغر الزمن العادي زمنا مشتقل لأن الدازاين من أجل أن ينفلت من تناهيه الذي يداهمه باستمرار يتجه إلى التشبث بزمن مقطع، مموضع يتكرر ويتدوّم باستمرار ويفلت من وحدته، وكأنه يود أن يتحكم في الزمن ويتصرف فيه ويحوسبه، في حين أن الزمن في العمق يفلت من أي عملية قولبة وحوسبة وتحكم.
انطلاقا من ذلك يميز هايدغر بين زمنية الدازاين وزمنية الكينونة محاولا فتح طريق للإنتقال من زمنية الدازاين إلى زمانية الكينونة خاصة ون الكينونة لا تمنح ولا تهب ذاتها إلا عبر فهم الدازاين وزمنيته أي أن الكينونة لا يمكن فهمها واستحداسها إلا انطلاقا من الزمن وذاك هو الطريق الذي دشنه كانط بمحاولته الاقتراب من هذه العلاقة بين الكينونة والزمن، وإن لم يتأت له أن يسير بعيدا في هذا الاتجاه لأنه كان ضحية الأنطولوجيا الكلاسيكية حول الذات المتوارثة عن ديكارت والمسار الذي سينبري له هايدغر محاولا فحص العلاقة بين الكينونة والزمن انطلاقا من أنطولوجيا الدازاين، وهو ما تطلب منه العودة إلى التجارب الأصيلة في الأنطولوجيا الإغريقية مبينا أنها تقوم على تأويل غير متطابق أو غير دقيق ووحيد الجانب للكينونة منظورا إليها كحضور دائم محدد للجوهر أو للمادة الجوهرية، وذلك في إطار التخفيف من ضغط وقوة الحاضر في هذا التصور ومن أجل فهم الزمن لا انطلاقا من الحاضر بل انطلاقا من المستقبل ومن الزمنية المتناهية للدازاين.

الزمن الذي يتحدث عنه هايدغر ليس الزمن الجاري زمن الوقائع والأحداث أو الزمن الواقعي، بل هو زمن أعمق، زمن الوجود أو الكينونة.
نحن نفهم الزمن الواقعي فهما تقطيعيا على أنه تتالي وتلاحق آنات ولحظات وكأننا أمام أو بمواجهة موضوعات خارجية نتعامل معها ونستقبلها كما لو كانت أحداثا خارجية في غير علاقة مع الزمنية العميقة.
أما الزمن الذي يتقصد هايدغر الحديث عنه فهو زمن أعمق، هو زمن الوجود أي المرتبط بالموقف الأساس من الوجود وهو موقف الانهمام. وهذا الزمن ليس تلاحقا وتتاليا لآنات بل تداخل وتوتر داخلي ثلاثي الأبعاد:
الماسيأتي: في هذه الحالة يكون الوجود الإنساني العميق (الدازاين) في حالة توتر وانشداد قلق نحو المستقبل أو الماسيأتي أو القادم أو الماسيحدث كإمكان وارد.
الماكان: وهو يحيل على ما كانه الوجود الفردي للإنسان، إي إلى عالمه أو ما يدعوه الإدراك العامي بالماضي. والانشداد والانسقاط إلى المستقبل والآتي لا ينفك عن هذا الإنشراط بالماكان أو بالشرط التاريخي.

الماهو قائم أو الحاضر: وهي تلك اللحظة المتوترة والدينامية المتداخلة بين الماسيأتي والماكان والتي ترى الذات الإنسانية فيها نفسها أو صورة عن نفسها.

البرغماتية: ما الفائدة من الأفكار؟


بين 1871 و 1876، في فترة عرفت بقلة الفلاسفة، كان أعضاء (فلاسفة، علماء نفس، محامون ومناطقة) أحد النوادي الصغيرة يجتمعون في مدينة كمبردج، تماما قرب جامعة هارفرد، لمناقشة مواضيع في مختلف المجالات، في الفلسفة، في الأخلاق، في السياسة وأسئلة علمية مختلفة.


كان شارلز ساندرس بيرز (1839-1914) أحد هؤلاء، اختصاصه الفيزياء والمنطق، وقد كان القائد الفكري للمجموعة.  صديقه وليام جيمس (1842-1910) كان الشخصية البارزة الأخرى في المجموعة، إبن أستاذ جامعي مشهور وأخ للكاتب هنري جيمس، وقد تردد طويلا بين الطب والرسم قبل أن يصبح أستاذا لعلم النفس في جامعة هارفرد ! وقد أسس بتلك الجامعة أول مختبر لعلم النفس التجريبي.

وقد كان هذان الإثنان هما (شارلز ساندرس بيرس ووليام جيمس) مؤسسا مذهب جديد سؤثر على الفكر الأمريكي تأثيرا كبيرا: البراغماتية.

ما هي البراغماتية


أول ما يجمع بين أعضاء هذا النادي، والذي سمي تهكما النادي الميتافيزيقي، قلت أن أول ما جمع بين أعضاءه هو نقد الميتافيزيقا، أي رفضهم لكل فلسفة تأملية خالصة تدعي معرفة حقيقة مطلقة حول العالم. كان بيرس وتشارلز وأصدقاؤهم متفقين على ضرورة تأسيس منهج جديد لإخراج الفكر من قفص الميتافيزيقا، فاعتبار الحقيقة تطابق بين الفكر والواقع مجرد وهم من أوهام النفس البشرية. لذلك يجب التخلص من الفلسفات النظرية لبلوغ حقائق ملموسة وقابلة للإختبار عن طريق التجربة.

عرض بيرس الأفكار الأساسية لهذا المذهب في إحدى مقالاته المنشورة سنة 1878 وهي بعنوان " كيف تتشكل معتقداتنا؟". أفكارنا ليست حقائق كونية ولكنها أدوات تساعدنا على حل مشاكل عملية. المعتقدات ترشد أفعالنا، وهي تكون مستقرة مادامت تتلاءم مع وسط معين، وتصبح موضع تساؤل بمجرد ما تظهر مشاكل جديدة، فيتم تعويضها بمعتقدات جديدة مناسبة للوضع الجديد وغالبا ما يكون ذلك بشكل مؤقت، ذاك هو التصور الذي تعرضه البراغماتية، فالأفكار تتأقلم مع الوضع الذي نحن فيه.

في مقاله "كيف نجعل أفكارنا واضحة" الذي تم نشره فيما بعد يستخلص بيرس من تصوره البراغماتي هذا خلاصة تتعلق بالمنهج: لا يمكن للأفكار أن تتطور إلا إذا صبغناها بصيغة عملية قابلة للخضوع للتجربة. فالقيمة الحقيقة لنظرية ما تكمن النتائج التجريبية التي تحققها والوظيفة العملية التي تؤديها.

أن تفكر بشكل صائب، هو أن تتعلم كيف تحول تلك الخطابات العامة والضبابية إلى اقتراحات واضحة ذات تطبيقات عملية قابلة للقياس، هكذا حسب بيرس "يمكن أن نجعل أفكارنا أكثر وضوحًا".



إن البراغماتية تتجه نحو العمل والأداء والمزاولة كما يقول جيمس، حيث إنها ليست فلسفة مغلقة تعطي نتائج نهائية عن الطبيعة والأشياء، بل هي " مجرد طريقة فحسب، مجرد منهاج فقط"، حيث توجد الكثير من المشكلات الميتافيزيقية التي لا يمكن إيجاد حلول نهائية لها وبالتالي فإن الجدل حولها لا ينتهي ولا يمكن أن يحسم وبالتالي لا بد من وجود طريقة فعالة للبت في مثل هذه القضايا من خلال تقييم آثارها ووظائفها حيث أن "الطريقة البراجماتية في مثل هذه الحالات هي محاولة لتفسير كل فكرة بتتبع واقتفاء أثر نتائجها العملية كل على حدة"، وإذا لم يكن هنالك فرق عملي يمكن مشاهدته بين فكرتين من الناحية العملية فإنهما يعنيان شيئا واحدا وبالتالي " فإن أي نزاع أو خصام بشأنها، هو نزاع عقيم تافه معدوم الجدوى".

الفينومينولوجيا، الظواهرية، الظاهراتية، الفيمياء



تفهم العديد من المؤلفات الفلسفية الكبرى التي تنتمي إلى عصرنا الحاضر على أنها أبحاث فينومينولوجية مثل : المذهب الصوري في الأخلاق وعلم الأخلاق المادي القيمي لماكس شيلر(1913/1916) والوجود والزمن لمارتن هايدغر (1927)، والوجود والعدم لجون بول سارتر (1943) وفينومينولوجيا الإدراك لموريس ميرلو بونتي (1945)، كما أن تأثيرها امتد إلى مجموعة من العلوم خاصة علم النفس.


خلال أربعين عاما وفي أكثر من أربعين ألف صفحة لم ينشر منها إلا القليل في حياته ولم تنشر كاملة بعد، وذلك في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، أنشأ هوسرل اتجاها فلسفيا جديدا هو الفينومينولوجيا phénoménologie أو الظواهرية أو الظاهراتية أو الفيمياء (كما ترجمها علي حبيب الفريوي وذلك في مجلة الفكر العربي المعاصر، 1998 )، والهدف الأساسي للفينومينولوجيا كما قدمه هوسرل في مقال 1911 :"الفلسفة كعلم صارم"، هو إصلاح الفلسفة وإرجاعها إلى طابعهَا العلمي. ولهذا حارب الإتجاه الذي يرى أن الفلسفة ليست علمًا وإنمَا رؤية للعالم.

الظواهرية ، الظاهراتية ، الفيمياء


والفكرة المركزية لهذه المدرسة الفلسفية المعاصرة هي : أن الأشياء لا توجد خارج العلاقات التي تقيمها مع غيرهَا، مع الوَعي عندَ هوسرل. ولم يكن قصد هوسرل هو تكييف الفلسفة مع مناهج العلم الطبيعي المعاصر بل كانت غايته هو تحقيق معرفة متحررة جذريا من الأحكام المسبقة وبعيدة كل البعد عن الظن المجرد. حيث يؤكد في كتاب "الأبحاث المنطقية" (1900-1901) أن هذا العلم الجديد بعيد عن التفكير الطبيعي على الرغم من أنه يتناول نفس موضوع هذا التفير وهو الظواهر. والفينومينولوجيا لا تبحث في الوقائع الخارجية أو الداخلية، بل تركز على الواقع الموجود داخل الشعور، أي على الموضوعات بصفتها مقصودة من الشعور وفيه ( أخذ هوسرل مفهوم قصدية الوعي عن برنتانو، حيث أن كل إدراك هو إدراك لشيء ما، وكل حكم هو حكم على شيء ما، ففعل الوعي (إدراك، تذكر، تخيل، حب، كره..) هو فعل يتوجه دائمًا إلى شيء ما، وهكذا ترتبط القصدية لدى هوسرل بفكرة التعالق بين فعل الوعي وموضوعه ارتباطا وثيقا، ولهذا ترفض الفينومينولوجيا التعبير عن العلاقة بين الوعي وشيئه من خلال "داخل" و"خارج" أو "ذات" و"موضوع"، لأن هناك وحدة عضوية تشد الفعل إلى شيئه) ، إن الظاهرة بالنسبة لهوسرل هي ما يظهر مباشرة في الشعور، أي انها تدرك في الحدس قبل كل تفكير أو حكم، وما علينَا إلا أن نتركها تظهر وتعطي نفسها، فالظاهرة هي التي تعبر عن نفسها بنفسها، وهذا ما يسميه هوسرل الإعطاء الذاتي للموضوع، وهكذا ترتكز العناية بمضامين وموضوعات المعرفة أساس على وصفها على الصورة التي تعطى بها كمقاصد خالصة وبسيطة للشعور.

هوسرل : الفينومينولوجيا



نحن الآن في سنة 1910، و صديقنا إدموند هوسرل (1859-1938) يجلس في مكتبه داخل منزله بغوتِنغن، وهو في طور تأليف كتابه " أفكار حول الفينومينولوجيا الخالصة" وهو مخطوط كان يشتغل عليه منذ سنوات ولا ينفك ينقحه ويعدل
إنه فصل الربيع وفي تلك اللحظة يرى هوسرل من خلال النافذة شجرة مزهرة. فتخطر في باله فكرة أن هذه الشجرة قد تكون وسيلة جيدة لتوضيح بعض الأفكار المفتاحية في الفلسفة الجديدة التي يؤسسها: الفينومينولوجيا.

الفينومينولوجيا


علم الماهيات

فلنلاحظ هذه الشجرة، يكتب هوسرل، "إنها شيء، أنا أرى عنصرا من الطبيعة، هناك في الحديقة". إنها شجرة حقيقية، لكن لنغمض أعيننا قليلا ولننسى هذه الشجرة لكي نفكر في مفهوم الشجرة نفسه. ففي حين تقدم لنا الطبيعة أشياء حقيقية في حالات وأشكال مختلفة – بلوط، أرز، صفصاف – يستطيع الفكر أن يستخلص نموذج مجردًا، فكرة خالصة، ماهية تتعالى على كل الأشياء التي تندرج ضمنها. فكرة الشجرة تتكون عموما من "جذع" و"أغصان". إنه النموذج العام، النواة التي تفرض نفسها عندما نستحضر مفهوم الشجرة. هذه الأفكار الخالصة أو الماهيات التي تنظم فكرنا وتضفي معنى على الأشياء هي موضوع الفينومينولوجيا، والتي يرى هوسرل أنها يجب أن تفتح طريقا جديدا للفلسفة.
هوسرل كان رياضيا ومعجبا باتساقها ووضوحها لذلك اهتم كثيرا بالرياضيات والمنطق وجعلهما منطلقا لفلسفته حيث كان يريد من الفينومينولوجيا أن تجعل الفلسفة علما صارم، أن ترجعها إلى طابعها العلمي. لذلك انشغل بالبحث عن أساس يقيني للفلسفة، حتى تكون كالرياضيات والمنطق اللذان يتناولان مفاهيم وقوانين تفرض نفسها. لكن المشكل الذي يعترض هذا المنهج هو تدخل تقلبات الشعور السيكولوجي، حيث أن التداخل الموجود بين مضمون التصور المنطقي والمضمون النفسي الذي يتحقق فيه، بين العدد مثلا وعملية إحصاء الأجزاء الواقعية المدركة بواسطة الشعور يطرح إشكالا في طبيعة المعرفة. مما أدى إلى ظهور المذهب النفساني الذي يجعل المعطيات الفكرية والموضوعات الرياضية تابعة لقوانين الفكر الإنساني، وهو المذهب الذي شن عليه هوسرل في كتابه "أبحاث منطقية" حربا شاملة معلنا تأسيس منهج جديد لتحليل الشعور.
الفينومينولوجيا لا تبحث في الوقائع الخارجية، بل تركز فقط على الواقع الموجود داخل الشعور، أي على الموضوعات بصفتها مقصودة من الشعور وفيه، باختصار على ما يسميه هوسرل الماهيات المثالية التي يعني بها تحديدا الظواهر (الفينومينولوجيا تترجم الظاهراتية أو الظواهرية).

الظاهرة بالنسبة لهوسرل هي ما يظهر مباشرة في الشعور، أي أنها تدرك في الحدس قبل كل تفكير أو حكم، وما علينا إلا أن نتركها تظهر وتعطي نفسها.
لقد استعار هوسرل من أستاذه برنتانو مفهوم القصدية. وبالنسبة للأستاذ فهذه الأخيرة تعني تلك القدرة الخاصة التي يمتلكها الإنسان والتي تخول له تشكيل "تمثلات" حول الأشياء دون أن تكون تلك التمثلات صورا موضوعية لأنها تحمل توقيع الذات التي أنتجتها (الرغبات، الإرادة، العلاقة بالعالم...). نقول أن التمثل قَصدي عندما يعبر عن المعنى الذي يضفيه الفرد على الأشياء. وقد أثرت هذه النظرية على هوسرل لكنه لم يعجب بجانبها السيكولوجي، لذلك عمل هوسرل على تخليص قصدية برنتانو من جانبها النفسي ودمجها مع المفاهيم الكونية للرياضيات.

وهكذا بدأ في كتابة أبحاثه المنطقية حيث يعرض اكتشافه. في الهندسة، المستطيل هو شكل ذو خصائص كونية. شكل من أربعة أضلاع كل ضلعين متقابلين متقايسين وله أربع زوايا ... قد نغير طول أضلاعه، نجعله أكبر أو أصغر، لكن ماهيته لا تتغير يظل المستطيل هو المستطيل. وهذا هو ما يرتكز عليه هوسرل ويعممه على كل ما ندركه، فعندما أرى شيئا مستطيلا – نافذة، كتاب، طاولة – فأنا أرى في نفس الوقت شيئا ماديا وشكلا هندسيا (المستطيل)، وهكذا فالمستطيل موجود رياضي كوني، ماهية.


هوسرل إذن يهتم بالماهيات وقد ارتكز منهجه على مبدأ تعليق الحكم أو الأبوخية، الذي يقضي بوضع العالم بين قوسين والبحث عن الأفكار الخالصة. ماهية الزهرة ليست الورد، النرجس، الأقحوان ... إنها نبتة ببتلات ملونة. هذه الماهية ليست تعريفا علميا، هكذا يدركها الوعي بشكل مباشر. ماهية الزهرة، الشجرة، الإنسان ذاك هو موضوع الفينومينولوجيا.


ما الآخر؟

ما الآخر؟

إن مفهوم "الآخر" هو أحد مفاهيم الفكر الأساسية، شأنه في هذا شأن "أنا" أو "كينونة"، وبالتالي فهو يستعصي على التعريف، لأن التعريف يقوم على الوصف والمقارنة والتمييز والتحديد الخ ... يتعارض مفهوم "الآخر" مع فكرة "المماثل" أو "المماهي" اذ يتضمن معنى "المغاير" و "المختلف" و"المتباين" و"المتميز". علما بأن فكرة "متميز" تعني، أول ما تعني، العملية الذهنية التي يواسطتها يتم التعرف على فكرة "الآخرية" – لقد اعتمدنا اصطلاحا كلمة "آخرية" بدلا من كلمة "غيرية" هنا، تفاديا للالتباس، لأن كلمة "الغيرية" يلازمها معنى أخلاقي هو معنى السخاء والبذل، استتباعا نقول إن كلمة "آخرية" نقصد ما يخص الآخر في مقابل "الأنا" – أما كلمة متباين فتنطبق، بالأخص على وجود "الآخرية" باعتبارها كائنا موضوعيا. فـ "الآخرية" هي صفة ما هو آخر، وعكس المماهاة.


بعض الفلاسفة يأخذون كلمة "آخر" بمعنى صفة كل ما هو غير "أنا" إذ ذاك يشمل مفهومها كل ما هو غير "أنا" سواء الأشخاص الآخرين أو الأشياء. لكن فكرة "الآخر" بمعنى غير "الأنا" هي مقولة أبستيمولوجية، ملخصها الاقرار بوجود موجودات خارج الذات العارفة، أي كينونات موضوعية. وهذا مدار الرد على النظرية المثالية (المثالوية) في نظرية المعرفة، التي تغالي في التشديد على واحدية الذات العارفة من حيث الوجود.
تنظر بعض الفلسفات الوجودية إلى "الآخر" بمعنى الشخص الإنساني الآخر على أن الضد الذي تسلبني نظرته عالمي ويجمد حضوره حريتي ويعيقني اختياره. في الواقع من الصعب نكران هذه الواقعية  القائمة في مضمار العلاقات البينذاتية، إذ أن التعامل مع الآخر، أو الآخرين، تحكمه، عادة، حاجة التملك أو الإخضاع من طرف ومن آخر. لذلك تنتصب غريزة الدفاع عن الذات رافضة عالم الآخرين، الأمر الذي يحمل بعض الاشخاص على قطع علاقتهم الحميمية مع الآخرين، فيعيشون في عزلة فردية صميمية. وبعضهم يعتاد التعامل مع "الآخر" بشرط أن يكون هذا "الآخر" مرنا، قابلا للاستغلال. فالمستبد يحول محيطه من الآخرين إلى مجال حيوي شخصي، فيكون تعامله معهم ونظرته إليهم موسومين بالحذر والتحسب والاحتجاج.

يدل علم النفس أن أول سلوك يظهر فيه الانسان في طفولته المبكرة هو حركة لمحو "الآخر"، إذ أن الطفل، بين عمر الستة أشهر والسنة يخرج من حياته البيولوجية الصرف ويكتشف نفسه في "الآخرين". ربما في هذا ما يفسر بدء اكتساب اللغة التي هي عملية ترتيب للأشياء ووسيلة تعامل مع الآخرين، لدى الأفراد الأصحاء. أول ما يبدأ الفرد التعرف إلى نفسه في مواقف خاضعة  لنظرة "الآخر"، إنه أداة التواصل مع "الآخر"، شخصا كان هذا الآخر أم شيئا. وفي التجربة الداخلية يشعر المرء أنه حضور موجه نحو العالم ونحو سائر الآخرين بدون حدود، إذ أنه يختلط بهم في اتجاهات عالمية. فالآخرون لا يحدون الشخص، كما تظن الفردية المغالية، بل يكونونه ويجعلونه ينمو. فالذات لا تكون إلا بواسطة الآخرين ولا تعرف وجود نفسها إلا بالآخرين.


رشيد مسعود، الموسوعة الفلسفية العربية.

العلمانية


ليست العَلمانية مذهبا فلسفيا، بل مذهب قانوني- سياسي بالأولى، ولكنها غير منقطعة الصلة بالفلسفة، لأنها في جانبها النظري نتاج للنظر العقلي ولأنها في جانبها العملي تنبثق عن جملة من الممارسات والإشكاليات التي تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، وبالتالي وفي التحليل الأخير بين الثيولوجيا والأنثروبولوجيا، أي بين الالهيات والانسانيات.

والعَلمانية بالعربية لفظة مستحدثة كمقابل لكلمة  Laïcité  أو Laïcisme  بالفرنسية. وكلمة Laïcité  مشتق من اليوناني  Laikos ومن اللاتينية المتأخرة Laicus التي تعني العامي أو ابن الشعب أي المدني غير المتعلم، وذلك في مقابل كلمة  Clerc التي كانت تطلق على رجل الدين لأنه كان وحده المتعلم عمليا في القرون الوسطى. وأول من استحدث كلمة علماني بالعربية هو إلياس بقطر واضع المعجم الفرنسي-العربي الصادر عام 1828. على أن الكلمة لم تأخذ طريقها إلى الانتشار الواسع إلا بعد قرن ونيف من الزمن، وقد فرضت نفسها لأول مرة على معجم عربي-عربي هو المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية في مصر في أواخر الخمسينات من القرن العشرين.


وخلافا للاعتقاد الشائع، فإن كلمة علمانية غير مشتقة من العِلم، بل من العَالم، وعلى هذا فإن العَلماني هو من ينتشب إلى العَالم أو العالمين أي الناس، في مقابل الرباني المنسوب إلى الرب. وبذلك يكون الاشتقاق العربي المستحدث مطابقا للاشتقاق اليوناني – اللاتيني لكلمة Laïc. ولكن ليس من قبيل الصدفة أن تذهب الأذهان إلى العلم عند ذكر العَلمانية، فما ذلك لتشابه الألفاظ فحسب، بل كذلك للصلة المضمونية. فـ العلماني هو بالإجمال من يأخذ بالتصور العلمي للعالم في مقابل التصور الديني.

العلمانية


وإذا كانت الألفاظ تفهم بأضدادها، فإن نقيض العلماني هو الاكليريكي، أي من ينتسب إلى الاكليروس، وهو طبقة رجال الدين، أو من يناصر الاكليرية، وهي مذهب يقول بضرورة تدخل رجال الكهنوت في الشؤون العامة.

واستحداث لفظة العلمانية في القرن التاسع عشر وفي سياق من الترجمة المعجمية يعني أن المشكلة لم تكن مطروحة في ظل الحضارة العربية الاسلامي التي ما احتاجت بالتالي إلى نحت المفهوم. والواقع أن إشكالية العلمانية هي تاريخا إشكالية غربية، وفي المقام الأول فرنسية. ففي فرنسا صيغ المفهوم لأول مرة ، وفي فرنسا أيضا عرف الصراع بين الدولة والكنسية أكثر أشكاله ضراوة، وفي فرنسا أخيرا تطور، عبر فلسفة الأنوار وورثتها، فكر فلسفي معادٍ للدين أو لرجاله أو لكليهما معًا.

ومن الممكن القول إن المسيحية هي التي أعطت للعلمانية فرصة لرؤية النور. فعلى الرغم من أن الكنيسة مارست هيمنة شبه مطلقة على الدولة بدءا من تنصر الامبراطور قسطنطين وعلى امتداد الالف سنة التي تتألف منها العصور الوسطى، فإن المسيخ يمكن أن يعد هو الزارع الأول لبذرة العلمانية عندما دعا على نحو لا يحتمل التباسا إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية بقوله : "أعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله".


وابتداء من عصر النهضة حدث ما يشبه الانقلاب في العلاقة بين الكنيسة والدولة. فبعد أن كانت الأولى هي التي تسعى باستمرار إلى استتباع الثانية، صارت الدولة، وبخاصة من خلال المونارشيات أو الحكومات الملكية المركزية القوية، هي التي تتطلع غلى استتباع الكنيسة وربطها بعجل مصالحها. ومع الانشقاق البروتستاني الكبير  ظهرت إمكانية قيام كنائس قومية، أي كنائس مستقلة عن الزعامة المركزية البابوية وتابعة للأمير المحلي. وفي فرنسا بالذات، وبعد الصدام الكبير في مختتم القرن الثالث عشر بين فيليب الجميل، ملك الفرنسيين، وبين بونيفاسيوس الثامن، بابا روما، تطور في عهد شارل السابع ثم في عهد لويس الرابع عشر المذهب الأنغليكاني وهو المذهب الذي يقر لكنيسة فرنسا باستقلال نسبي عن الكرسي البابوي، ولملوك فرنسا باستقلال مطلق في المجال التشريعي الزمني. وهكذا ما كان لفكرة فصل الدولة عن الكنيسة أن ترى النور لا في القرن السادس عشر ولا في القرن السابع عشر، إذ ما كان للدولة أن تبتر نفسها بنفسها بعد أن أضحت الكنيسة عضوا من أعضائها. وفي الواقع كان لا بد من انتظار أواسط القرن الثامن عشر حتى تتفجر، من خلال فلسفة الأنوار، نزعة ضارية في عدائها للإكليريكية لا على الصعيد النظري فحسب، بل طذلك على الصعيد العملي من خلال الإجراءات القانونية والاقتصادية التي اتخذتها الثورة الفرنسية ضد الكنيسة والسلك الكهنوتي. ومن وجهة نظر فلسفية خالصة وجدت الأيديولوجيا العلمانية أو المعادية للإكليريكية خير ناطقين بلسانها في أشخاص مفكرين مشاهير من أمثال روسو، داعية الدين الطبيعي، وفولتير الذي نذر نفسه وفكره لمحاربة النذل، والموسوعيين مونتسكيو وديدرو ودالمبير الذين جعلوا من المادة مبدأ أول ومن الإنسان، لا الله، مركز الكون.

وبالمقابل، وباستثناء مرحلة عامية باريس القصيرة الأمد، خفَتَ على امتداد القرن التاسع عشر ضجيج النزعة المعادية للاكليريكية. ولكن مع استقرار الجمهورية الثالثة ابتداء من عام 1879 عادت العَلمَانية تفرض نفسها، وفي شكل سياسي هذه المرة. فقد باتت الغالبية في البرلمان للعلمانيين، وأمكن بالتالي إصدار سلسلة من القوانين وضعت حدا شبه نهائي لتدخل الكنيسة في الشؤون العامة وكفت يدها فيما يتعلق، بوجه خاص، بالتعليم وقانون الأحوال الشخصية، مما استتبع قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان سنة 1904 على أنه كان لا بد من انتظار قيام الجمهورية الرابعة عام 1945 ليكرس الدستور الفرنسي بصورة نهائية علمانية الدولة، أي لا طائفيتها وحيادها في موضوع الدين.

وبالإضفة إلى فرنسا فإن أسبق الدول الاوربية إلى إعلان علمانيتها كانت اسبانيا في ظل الحكم الجمهوري بين 1868 و1876. أما في أمريكا، فعلى الرغم من الطابع الليبرالي والعقلاني لإعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1776، فإن المكسيك كانت هي السباقة إلى التكريس العلني لعلمانية الدولة من أواسط القرن التاسع عشر. كما كانت تركيا في عهد مصطفى أتاتورك هي أول دولة إسلامية تتبنى العلمانية. وبالمقابل، فإن الدولة اليهودية الوحيدة في العالم، نعني إسرائيل، ما تزال بين سائر دول العالم أكثرها طائفية لأنها جعلت من الدين نفسها قومية ولم تتخذ لنفسها دستورا لأن أي دستور معناه الحد من سلطة التوراة والشريعة الموسوية. وباستثناء الدول الاشتراكية، فإنه يندر اليوم أن نقع على دول أو دساتير علمانية خالصة. فالقانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية)، الصادر في عام 1949، يؤكد مثلا أن "الشعب الألماني واع لمسؤوليته أمام الله". ودساتير النرويج والسويد لا تبيح أن يكون الملك غير أنغليكاني. كذلك فإن دساتير بعض الدول العربية والاسلامية التي أخذت بالحداثة تشترط أن يدين رئيس الدولة بدين الاسلام، كما تنص على أن الشريعة الاسلامية هي مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي للتشريع. أما سويسرا، التي لا تزال تعمل بدستورها الاتحادي الصادر عام 1874، فلا تزال أقرب إلى الغاليكانية منها إلى العلمانية، وتنتصر بالتالي لمبدأ سيطرة الدولة على الكنسية، بالإضافة إلى أن قوانين بعض كونتوتاتها تتضمن مواقف تمييزية إزاء بعض الطوائف أو الجمعيات الدينية، وذلك هو أحد الأسباب التي جعلت سويسرا تمتنع حتى الآن عن التصديق عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. وحتى الدول الاشتراكية لا يمكن أن تعتبر علمانية خالصة، لأن قوانين بعضها تلزم الدولة وأجهزتها بالقيام بالدعاية الالحادية، مما يخل بمبدأ أساسي من مبادئ العلمانية، ألا وهو حيادية الدولة في موضوع الدين.


وبالفعل، إذا كانت العلمانية تعني، في المقام الأول، عدم كفاءة الكنيسة في الشؤون العامة والمجال الزمني، فإنها تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي. فالحرية الدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائه تنتفي العلمانية من أساسها. والدولة العلمانية ليست دولة لا دينية، بل هي دولة لا طائفية. ليست هي الدولة التي تنكر الدين، بل هي الدولة التي لا تميز دينا عن دين، ولا تقدم أبناء طائفة على أبناء طائفة أخرى، ولا تخص بعض وظائف الدولة بأبناء طائفة بعينها دون سائر الطوائف.

هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية الفلسفية والمعرفية، فإن أقصى ما تعنيه العلمانية ليس الإلحاد أو نفي وجود الله بل " تأسيس حقل معرفي مستقل عن الغيبيات والافتراضات الايمانية المسبقة"، أي مستقل عن المرجعيات المتعالية التي تعطي نفسها حق تنظيم العلم وتضع لحرية الفكر حدودا تتنافى مع ماهية الفكر بالذات من حيث أنه لا يقبل الحد. وبكلمة واحدة، إن العلمانية ليست نفيا للاعتقاد، بل هي تحرير له من القيود والإكراهات الخارجية.  ولا غرو بالتالي أن يكون الفكر الديني الحديث قد عرف في ظل العلمانية تطورا في العمق ما أتيح له أن يعرفه في ظل الأنظمة الثيوقراطية. فقد استعاد الدين بعده الداخلي بعد أن كان تقلص، في ظل الثيوقراطيات الآفلة، إلى مجرد طقوس خارجية.

مصادر ومراجع
-         أركون، محمد، نقد العقل الإسلامي.
-         باييه، أ.، تاريخ الفكر الحر
-         فولغين، أ.، فلسفة الأنوار.
-         كابيران، ل.، التاريخ المعاصر للعلمانية.
-         المعجم العقلاني.
-         ملور، إليك، تاريخ النزعة المعادية للإكليريكية في فرنسا.
-         موسوعة أونيفرساليس.
جورج طرابيشي